القائمة الرئيسية

الصفحات

حماية حقوق الانسان في مرحلة ما قبل المحاكمة على ضوء قانون المسطرة الجنائية المغربي

تقسيم الموضوع


    حماية حقوق الانسان في مرحلة ما قبل المحاكمة على ضوء قانون المسطرة الجنائية المغربي
    أولا : التعريف  بمرحلة ما قبل المحاكمة
    ان الدولة  بوصفها صاحبة الحق في العقاب، لا تستطيع اقتضاء هذا الحق بصفة مباشرة، بل عليها  ان تسعى في سبيل ذلك، وتلجا إلى الجهة القضائية المختصة، وذلك عن طريق الادعاء.

    والادعاء لا ينبني على فراغ، وانما  يفترض ان يقوم على دعائم  قوية، مؤداها اكتشاف الجريمة، وجمع ادلة اثباتها،  ويتطلب هذا الامر القيام بعمل تمهيدي سابق على الادعاء والمحاكمة، غايته اكتشاف الجرائم والعثور على ادلتها(1). هذا العمل التمهيدي، يعرف بالمرحلة السابقة على المحاكمة، وتجمع تشريعات الدول المعاصرة على الاعتراف بها كمرحلة تمهيدية تسبق تحريك الدعوى العمومية.

    وتنقسم مرحلة ما قبل المحاكمة إلى شقين:
    الشق الأول : يجري على يد الشرطة القضائية، وقد اصطلح على تسميته بالبحث التمهيدي. 
    الشق الثاني: يتولاه  قاضي التحقيق، ويعرف اصطلاحا بالتحقيق الاعدادي. ويختلف البحث التمهيدي عن التحقيقي الاعدادي من حيث الطبيعة القانونية،  وكذا الآثار المترتبة على كل منهما، وذلك رغم  كونها يشكلان وجهين لمرحلة واحدة، هي مرحلة ما قبل  المحاكمة.

    وقد عالج المشرع المغربي احكام  البحث التمهيدي، الذي يجري بمعرفة الشرطة  القضائية ضمن الجزء الثاني من الكتاب  الأول من قانون المسطرة الجنائية،  تحت عنوان " إجراءات التحقيق(1). 
    وعبارة "اجراء التحقيق" هذه تبعث على الالتباس، ذلك ان التحقيق في مفهومه الدقيق يشكل عملا من اعمال  قاضي التحقيق أو قاضي الحكم بحسب الأحوال، ولا شان للشرطة القضائية به مبدئيا(2).
    وقد قصر المشرع المغربي عبارة "البحث التمهيدي" على ابحاث الشرطة القضائية في الأحوال العادية، وكان من الانسب جعل العبارة  تشمل ايضا حالة التلبس بالجريمة.

    هذا ولم  يرد ضمن  نصوص قانون المسطرة الجنائية تعريف للبحث التمهيدي(3).ونجد بعض المحاولات الفقهية في تعريف البحث التمهيدي، ومن قبيل ذلك :" انه مرحلة  للتثبت من وقوع الجريمة وجمع الادلة عنها، والبحث عن مرتكبيها وهي المرحلة التي  تسبق التحقيق والمحاكمة".

    يتميز هذا التعريف بتركيزه على الترتيب الزمني للبحث التمهيدي، من حيث انه مرحلة  تسبق المحاكمة  والتحقيق،  ويتم خلالها جمع الادلة والبحث عن مرتكب الجريمة(4).

    لكنه تعريف تنقصه الدقة، من حيث انه لا يحدد محتوى البحث التمهيدي، ولا يتعرض لطبيعته القانونية التي تميزه عن غيره من النظم القانونية المشابهة، كما لا يتعرض لصفة القائم به.

    وفي تعريف اخر، نجد بان البحث التمهيدي في مفهومه الواسع " هو مجموع التحريات التي يقوم بها رجال الشرطة القضائية، قبل وضع قاضي التحقيق أو المحكمة، يدها على القضية،  تلك التحريات التي يقصد منها التأكد من حدوث الجريمة فعلا، وجمع الادلة عنها، ومحاولة اكتشاف  مرتكبيها (5).

    ويمتاز هذا التعريف بتركيزه على محتوى ومضمون البحث التمهيدي وتحديده  لطبيعته، من حيث انه مجموع التحريات المعهود بها لرجال الشرطة القضائية،  ووضعه كمرحلة زمنية تسبق التحقيق والمحاكمة، ورسم هدفه، وهو التأكد من الجريمة وجمع ادلة  اثباتها.

    ان البحث التمهيدي، ينطوي على مفهومين،  احدهما واسع،  والاخر ضيق .فالبحث التمهيدي في مفهومه الواسع، يشمل كافة الإجراءات والتحريات التي تقوم بها الشرطة القضائية، سواء في حالة التلبس بالجريمة، أو في الأحوال العادية، وهو من حيث محتواه يشكل مرحلة اجرائية تمهد للتحقيق الاعدادي والمحاكمة، ومن حيث غايته، يستهدف تقصي الجرائم، واقتفاء اثر المجرمين، وتحصيل الادلة والبراهين.

    ان هذا المفهوم الواسع، هو الذي قصده المشرع المغربي، ووضعه عنوانا للجزء الثاني من الكتاب الأول، عبر عنه بمصطلح " اجراء التحقيق" ( الفصول من58 إلى 83 من قانون المسطرة الجنائية)(1).

    اما البحث التمهيدي في معناه الضيق، فينحصر في التحريات التي تقوم بها الشرطة القضائية، خارج حالة التلبس بالجريمة، ويستهدف كشف الجريمة وجمع ادلتها.

    وقد سمي هذا البحث تمهيديا، لانه مرحلة اولية تسبق التحقيق الاعدادي والمحاكمة وتمهد لهما.ويعتبر الطابع التفتيشي اهم مميزات البحث التمهيدي، ويتجلى في السرية المطلقة التي تعرفها الإجراءات، وفي ضرورة تدوين هذه الإجراءات كتابة.اما الشق الثاني من مرحلة ما قبل المحاكمة، والمتمثل في التحقيق الاعدادي، فيمكن تعريفه بانه مجموعة التحريات التي يباشرها قاضي التحقيق، ويسعى من ورائها إلى تمحيص الادلة والحجج، واستكمال  ما تبقى منها، وتقرير ما إذا كانت تلك الادلة كافية لاحالة القضية على هيئة الحكم.ويتميز التحقيق الاعدادي، بانه يجري بمعرفة السلطة القضائية، كما يتميز  بطابعه التفتيشي، من حيث ان السرية والكتابة تتناوبان مناطقه المختلفة منذ بدايته إلى نهايته.

    وقد استحدث  قانون المسطرة الجنائية  بعض المرونة،  تتمثل على الخصوص في وجوب المؤازرة  بمحام، وفقا لما جاء به الفصل127 ووجوب وضع ملف القضية رهن اشارته، وامكانية اتصاله بموكله بكامل    الحرية(1).

    ثانيا :  اهمية مرحلة ما قبل المحاكمة
    تلعب مرحلة ما قبل المحاكمة،  دور الفاتحة بالنسبة للاجراءات الجنائية، وهي لذلك تطبع القضية المرفوعة إلى العدالة بطابع يتعذر ان يزول في المراحل  اللاحقة، ومن ثم فانها  مرحلة دقيقة تنطوي على  خطورة واهمية قصوى،  سواء بالنسبة لحقوق المتهم، أو بالنسبة لحق الدولة  في العقاب.

    والعلة في اقرار مرحلة تسبق المحاكمة، هي الا تحال على العدالة الجنائية  قضائيا تنعدم  فيها الأسباب الواضحة المقبولة،  توفيرا لوقت القضاء وجهده، حتى لا يهدر في  السعي خلف تعقب الادلة وجمع  شتاتها،  وصونا لحقوق المتهمين من ان يساقوا إلى  ساحة العدالة الجنائية  في محاكمات متسرعة، يمليها الكيد أو حب الانتقام أو العجلة في الشك والتسرع  في الاتهام.

    ان لمرحلة ما قبل المحاكمة اهمية وفائدة قصوى تتجلى في الامور التالية :
    1-  تتوفر الشرطة القضائية على إمكانات  مادية وبشرية جد هامة،  تؤهلها لجمع العديد من المعلومات عن الجريمة والمجرم، يساعدها في ذلك سرعة التحرك، وهو ما يجعلها اقدر على اكتشاف الحقيقة،  وتسهيل مهمة العدالة الجنائية.

    2-  تتمخض هذه المرحلة عن اقامة محاضر، توضح ظروف وملابسات الجريمة، والكيفية التي حبكت بها خيوطها، وعلى ضوء المعلومات التي تضمها هذه المحاضر، تقدم النيابة العامة على المتابعة، أو تحجم عنها،  وتأمر بحفظ القضية.
    كما ان قاضي التحقيق كثيرا ما يستند في مقرراته إلى ما تحتويه محاضر الشرطة القضائية من بيانات، نظرا لما لها من حجية في الاثبات.

    3-  يتسم البحث التمهيدي الذي تنطلق به مرحلة ما قبل المحاكمة،  بكونه منهج مبسط وسريع،  بالنسبة  للقضايا البسيطة التي تستغني عن التحقيق الاعدادي،  مما  يساعد على توفير نفقات الادعاء،  وبالاضافة إلى ذلك، فان البحث التمهيدي لا تثقله الشكليات والإجراءات المعقدة، التي على القاضي ان  يراعيها،  فضلا عن طول مدة.

     الاعتقال الاحتياطي التي يمكن ان  يامر بها القاضي،  بالمقارنة  مع قصر مدة الحراسة النظرية المخولة  للشرطة القضائية،  والتي حصر المشرع شروطها ومدتها.ويترتب على ذلك امكانية حفظ العديد من الشكايات، والوشايات عديمة الاساس، والتي غالبا ما تنتهي بالبراءة، أو عدم المتابعة عند احالتها على الهيئة القضائية المختصة،  وهو ما يؤدي إلى توفير جهد ووقت هذه الجهات.كما ان التحقيق الاعدادي، وهو الشق الثاني من مرحلة  ما قبل المحاكمة، يشكل فرصة ثانية، لتمحيص الادلة، على نحو يكفل الحيلولة دون التسرع في المتابعة الجنائية.

    ومعلوم ان التحقيق الاعدادي، ليس الزاميا في كل القضايا، بل هو محصور في البعض على نحو ما سنرى.وبالرغم من اهمية مرحلة ما قبل المحاكمة،  فان عليها مآخذ شتى وانتقادات عديدة يمكن ان نختصرها فيما يلي :

    1-  تنطوي هذه المرحلة على الكثير من المخاطر التي تهدد حريات المواطنين، وذلك راجع لقلة  الضمانات القانونية خلال البحث التمهيدي، وضعف الرقابة القضائية وازدواجيتها على اعتبار ان  الشرطة القضائية تخضع  للسلطة القضائية،  وتخضع في ذات الوقت للسلطة التنفيذية، مما يجعل هذه الرقابة متذبذبة غامضة.

    2-  تبحث الشرطة القضائية عن الفعالية، ويكون لمحاضرها تاثير  كبير على القضاة،  بحيث يضمحل انكار المتهم أمام المحاضر المتضمنة اعترافات  صادرة عنه تحت وطأة التعب، أو الضغط المادي أو المعنوي،

    3-  تعرض البحث التمهيدي ايضا لانتقادات شديدة من خلال ما تتوفر عليه الشرطة القضائية  من صلاحيات، اخطرها الوضع تحت الحراسة،  والتي سكت المشرع المغربي عن الجزاء المقرر لها  في حالة خرق قواعدها.

    4-  انطلاقا من ظهير28/9/1974 المتعلق بالاجراءات الانتقالية،  نجد ان الشرطة، قد حلت محل قاضي التحقيق في عديد من القضايا،  مما ترتب عنه ازدياد خطورة البحث التمهيدي،  والتقليص  من حقوق المشبوه فيه(1).

    ثالثا : المخاطر التي تهدد الحريات الفردية خلال مرحلة ما قبل المحاكمة
    المقصود بالحرية الفردية، ذلك المركز القانوني المعترف به للفرد في مواجهة السلطة العامة، والذي يخوله امكانية الزام السلطة بالامتناع عن التعرض لبعض نواحي نشاطه المادي والمعنوي.

    ان الحرية الفردية  بهذا المعنى،  تشكل قيدا يرد على السلطة، ويندرج ضمن التنظيم القانوني للدولة.وتعتبر الحرية الفردية، اهم نقطة للخلاف بين الفرد والسلطة العامة، لذلك نجد الدساتير في الدولة المعاصرة  تخص الحرية الفردية، بنصوص مستفيضة تستهدف اخضاع الدولة للقانون.

    على ان وجود تلك النصوص الدستورية، لا يعني  بالضرورة ان الدولة خاضعة فعلا للقانون، ففي كثير من الحالات، نجد الدساتير ترتدي الاثواب القانونية، والتعابير الديمقراطية، من اجل خداع المواطنين،  كنوع من التمويه الحكومي  التسلطي، أو حتى الاستبدادي(1).

    والواقع ان القيود القانونية التي ترد على السلطة، والتي ترمي إلى حماية الحرية الفردية، قد سنت في الأصل بشكل فضفاض، يستهدف احتفاظ السلطة العامة لنفسها، باوسع الصلاحيات، تحت حجة الحفاظ على الامن العام، وكل سلطة تميل بطبعها الى ان تكون مطلقة،  فضلا عن  انها حينما تتصرف، يمثلها رجال، غالبا ما يكونون ثملين حتى الاشباع، بالسلطة التي يمثلونها، وهو ما يحملنا على الاعتراف، بان الكثير من المخاطر  تهدد حريات  الافراد خلال مرحلة ما قبل المحاكمة، وان هذا التهديد مصدره  شطط وتعسف محتمل  من لدن القائمين  على تطبيق القانون، والممثلين للسلطة العامة(2).

    والواقع ان اخلاق وضمائر أولى الامر، هي المعول عليها للحفاظ على المشروعية، ورعاية حقوق الافراد والمجتمع في ان واحد. ذلك ان القوانين مهما كانت قيمتها،  فهي  ليست  سوى  أدوات،  وعلى  الذين  يستعملونها  ان يستفتوا ضمائرهم، واخلاقهم، ومسؤوليتهم الانسانية قبل كل شيء.ومهما يكن من امر،  فان التشريعات التي تحد من سلطات الشرطة، هي السبيل الوحيد الذي يمكن الفرد من التمتع  بحريته،  وذلك على اعتبار ان الشرطة هي اداة السلطة العامة في القيام بوظيفتها،والتشريع هو وحده القادر على  الحد من التعسف، بشرط ان  ياتي واضحا، دقيقا، ومفصلا(1).ومن المفهوم ان صلاحيات الشرطة، تصاغ عادة في عبارات عامة بالإضافة إلى انها تتوفر في سبيل اداء مهامها، على سلطة تقديرية  واسعة، سواء فيما يتعلق بمناسبة التدخل أو الوسائل المستخدمة فيه. غاية الامر ان المجتمع مضطر لاعطاء الشرطة سلطتها باعتبارها اداته في فرض سلطان القانون، وتحقيق الصالح العام، الا  ان المجتمع ملزم ايضا بتامين الحماية القانونية للحرية الفردية، باعتبارها هي الاخرى احدى  دعامات الحياة المشتركة التي يتحقق منها صالح المجموع.

    ويهمنا ونحن نتحدث عن مرحلة ما قبل المحاكمة، ان نتعرف على المخاطر التي تهدد الحرية الفردية واشكال الحماية التشريعية المقررة دفعا لتلك المخاطر.اما المخاطر التي تهدد حريات الافراد، في هذه المرحلة، فتتكون من مجموعة من الاعتداءات، الممكن ارتكابها من طرف الشرطة القضائية، باسم السلطة العامة(2).

    وتنصب هذه الاعتداء على عدة حقوق، اهمها الحق  في التنقل والحق في السلامة البدنية وكرامة  الفرد، والحق في حرمة المسكن، أو حرمة الحياة الخاصة.وتتخذ هذه الاعتداءات شكل الاعتقال التعسفي، أو التعذيب، أو التفتيش غير القانوني، أو انتهاك سرية المراسلات، أو المكالمات الهاتفية.

    هذه الاعتداءات تشكل في مجموعها جملة من الجرائم المرتكبة باسم الدولة، ومن طرف ممثلي السلطة العامة، اعتمادا على سلطات وظائفهم  وهي الجرائم المشار إليها في الباب الثاني، من الجزء الأول، من الكتاب الثالث من  القانون الجنائي المغربي، تحت عنوان " الجنايات والجنح المسماة  بحريات المواطنين وحقوقهم(الفصول من 224 إلى 232)، وهي التي تتعلق بشطط الموظفين في استعمال  سلطتهم ازاء الافراد.
    ويدخل في ذلك ايضا، الفرع الرابع من الباب السابع ( الفصول 436 و441) المتعلق بالاعتداء الواقع من الافراد على الحرية الشخصية، وحرمة المسكن. وكذا الفرع الخامس ( الفصول 442 و448) المتعلق بالاعتداء  على شرف الاشخاص، وافشاء اسرارهم.

    وهذه النصوص المتفرقة، تؤكد بان المشرع المغربي، لا يأخذ بما يسمى بالنظرية العامة لحماية الحرية  الشخصية، وان كانت هذه الحماية، مقررة  بنوع من الخجل والاستحياء.

    ويبقى هذا القول صحيحا، رغم ان الدستور المغربي الحالي(10 مارس1972)، يضمن الحرية الشخصية  بنصوص صريحة(1).إذا كان هذا التقرير، لا يتسع لاستعراض تفاصيل الجرائم الممكن اقترافها من  طرف ممثلي السلطة خلال مرحلة ما قبل المحاكمة، فان الحقيقة المؤكدة، ان مجرد الاعلان القانوني، مهما كانت مرتبته، عن حرية الفرد، لا جدوى منه، ولا فاعلية فيه، ان لم يضع في نصوص محددة واضحة، ومقيدة  لسلطات الشرطة، ومجرمة لكل تجاوز صادر عنها، ضمن نظرية عامة لحماية الحرية الشخصية.

    رابعا :  الوضع الحالي لمرحلة ما قبل المحاكمة : على ضوء التشريع المغربي وافاق المستقبل
    يطبق حاليا بالمغرب، ومنذ فاتح أكتوبر1974 الظهير بمثابة قانون رقم 448/74/1 المؤرخ في 11 رمضان 1394 الموافق 28 شتنبر1974 المتعلق بالاجراءات الانتقالية، المنشور بالجريدة الرسمية عدد 3230 مكرر وتاريخ 30 شتنبر1974 صحيفة2794.

    ويقضي هذا القانون في فصله الأول بانه : " تبقى بصفة انتقالية، والى ان يدخل القانون الجديد المسطرة الجنائية في حيز التطبيق، مقتضيات الظهير261/58/1 وتاريخ فاتح شعبان 1378 (10 فبراير1959) المكون لقانون المسطرة الجنائية، مطبقة مع اعتبار التغييرات التالية."

    ولحد الان، ورغم مرور زهاء خمسة عشر سنة، على دخول المقتضيات الانتقالية، حيز التنفيذ، فان قانون  المسطرة الجنائية الموعود به،  لم يعرف النور بعد، والى يومنا هذا، لم تقدم  وزارة العدل مشروع القانون  الموجود لديها، لمجلس النواب قصد مناقشته، والمصادقة عليه.

    ولسنا ندري اسباب هذا التاخير، ونامل ان يكون ذلك من قبيل التريث والتأني، وعلى أي فان  المشروع  المذكور قد تعرض إلى نقد شديد من طرف ثلة من رجال الفقه والقانون المغربي(2).ولا يهمنا من هذا المشروع، ومن هذه الانتقادات الموجهة إليه، سوى الجانب المتعلق بمرحلة ما قبل المحاكمة، وهو الجانب الذي استحدث فيه المشروع تغييرات عديدة تناولت البحث التمهيدي،

    والتحقيق الاعدادي على حد سواء، وتصب كلها في اتجاه التشديد، والقسوة التي لا مبرر لها.ففيما يخص البحث التمهيدي، استحدث ظهير الاجراءات الانتقالية ( فاتح اكتوبر1974) في فصله الثاني، عدة مقتضيات تسير نحو توسيع مجال البحث التمهيدي، على حساب التحقيق الاعدادي، واحلال سلطة الاتهام محل قضاء التحقيق، بحيث يبقى ملف البحث الذي تجريه الشرطة القضائية، هو الوثيقة الاساسية، التي يعتمدها قاضي الحكم، في جميع القضايا التي لا يكون فيها التحقيق الاعدادي إلزاميا.

    ومعلوم ان المتهم، لا يؤازر خلال هذا البحث بمحام، ولا يتمتع بالرقابة القضائية على اعمال  الشرطة، ولا امكانية الطعن في اعمال البحث، وفضلا عن ذلك، فان النيابة العامة، هي التي لها الحق في حالة التلبس، ان تجري الاستنطاق المتابعة والامر بالاعتقال، والاحالة مباشرة على المحكمة(1).

    كما ان مشروع اصلاح قانون المسطرة الجنائية، استحدث الرقابة على اعمال الشرطة القضائية من خلال انشاء لجنة خاصة، تتالف من رئيس غرفة الجنايات، ورئيس غرفة الجنح، والرئيس الاول لمحكمة  الاستئناف.وقد انتقد هذا الحل، على اعتبار ان هذه اللجنة لا تستطيع ان تسد الفراغ الناشئ عن الغاء غرفة الاتهام التي كانت صاحبة الاختصاص بشان هذه الرقابة(2).

    ان تقليص مهام التحقيق الاعدادي، وتوسيع سلطات الشرطة القضائية والنيابة العامة، وتعميم حالة التلبس، من شانه ان يضر بحقوق الدفاع. ويبقى على المشرع ان يراجع دور الشرطة القضائية في الخصومة  الجنائية، ولكن بالقدر الذي يحفظ على الفرد حقوقه وحرياته.

    ولا يصح ان ينظر المشرع الى الشرطة، على انها اداة للردع فقط، لان في هذه النظرة التشديد وقسوة في غير محلها.ان الشرطة القضائية،  بامكانها ان تعلب دورا طلائعيا في الوقاية والدفاع الاجتماعي، ومن خلال هذا المنظور، يمكنها ان تساعد في اعمال التحقيق، وفي تنفيذ التدابير الجنائية وتسهيل اعادة دمج المنحرفين، والقيام بانشطة ثقافية واجتماعية.

    ومن جهة اخرى، فان حجية المحاضر التي تقيمها الضابطة القضائية،  وقوتها الاثباتية، يجب ان يعاد فيها النظر، نظرا لكونها تطرح العديد من التساؤلات، ويتعين تبعا لذلك ان تصاغ نصوصها صياغة دقيقة واضحة، ومما يؤسف له ان مشروع اصلاح قانون المسطرة  الجنائية  يسير  في  اتجاه  اعتبار الوقائع المضمنة بهذه المحاضر  من  قبيل  حالة التلبس(1).

    والملاحظ ايضا ان فترة الوضع تحت الحراسة طويلة جدا، إذا ما قورنت باغلبية القوانين المقارنة، لا سيما ان  القانون اجاز الوضع تحت الحراسة في كل جناية أو جنحة معاقب عليها بالحبس، وترك السلطة التقديرية لضابط الشرطة، ولم يترتب البطلان كجزاء على خرق القواعد النظمية للوضع تحت الحراسة(2).

    وقد كان الفصلان 61 و62 من ق م ج قبل تعديلهما، يحددان مدة الوضع تحتالحراسة في 48 ساعة مع السماح للنيابة العامة بتمديدها24 ساعة اخرى باذن كتابي، على ان تضاعف هذه الاجال في حالة التلبس بجناية أو جنحة تتعلق بامن الدولة الداخلي أو الخارجي.

    وبمقتضى التعديل الصادر في 28/9/1962، اصبحت فترة الوضع تحت الحراسة 96 ساعة، مع امكانية تمديدها 48 ساعة اخرى، فيكون المجموع 6 ايام، وفي جرائم امن الدولة تحدد الفترة بثمانية ايام، مع امكانية  تمديدها باربعة ايام اخرى. بل ان الفصل الثاني من التعديل ينص على انه في حالة المس بالسلامة الداخلية أو الخارجية للدولة، فان الوكيل العام للملك أو قاضي التحقيق يمكنه كذلك عند الحاجة، ان يامر كتابة بتجديد التمديد.

    وصياغة هذا النص، تدفع إلى الاعتقاد بامكانية تمديد الفترة اكثر من مرة،  بحيث تصبح المدة غير  محددة، وهذا الاتجاه هو الذي يسير فيه قضاء النقض المغربي(3).

    ولا يخفى ما لهذا الوضع من خطر على الحرية الفردية، الشيء الذي يتطلب تدخلا تشريعيا لاعادة الامور إلى  نصابها. اما بالنسبة للتحقيق الاعدادي، وفي ظل المقتضيات الانتقالية فقد اصبح التحقيق الزاميا فقط في الجنايات المعاقب عليها بالاعدام والسجن المؤبد ( الفصل 8) من  المقتضيات الانتقالية، وفي الجنايات المرتكبة من الأحداث ( الفصل 20) ولا تحقيق في الجنح ما لم يوجد نص قانوني خاص، في حين لا تحقيق اطلاقا في المخالفات.وقد تعرضت هذه المقتضيات لانتقادات كثيرة، من حيث خطورتها، لكونها عطلت مؤسسة التحقيق، وقصرتها على مجال ضيق.

    كما ان هذه المقتضيات اطلقت يد النيابة العامة، في حريات المواطنين، حيث يجوز لها احالة المتهم في الجنايات مباشرة على المحكمة، واستنادا فقط لمحضر الضابطة القضائية.

    ان هذا التسرع لا مبرر له، والحالة ان العقوبات مرتفعة في الجنايات مما يترتب عنه حرمان المتهم من الضمانات التي يخولها التحقيق الاعدادي من حيث المؤازرة  من طرف محام، وامكانية الطعن في امر قاضي التحقيق.

    وقد استحدث قانون المقتضيات الانتقالية، اجراءات جديدة، يستهدف منه تدارك ما استشعره من نقص، ناتج عن تقليص مجال التحقيق الاعدادي. ويتمثل هذا الاجراء فيما يعرف بالبحث التكميلي الذي يمكن ان يتولاه احد اعضاء هيئة الحكم، اذا ما ارتأت المحكمة ضرورة لذلك. ويبقى ان هذا البحث التكميلي، يشكل اجراءا استثنائيا لسد الثغرات التي يخلفها غياب التحقيق، كما ان هيئات الحكم قلما تلجأ إلى هذا البحث نظرا  لكثرة  ما تعانيه من تضخم عدد القضايا، وقلة التاطير(1).

    والملاحظ ان مشروع قانون المسطرة الجنائية الذي انجزته وزارة العدل، والذي لم يعرض بعد على مجلس النواب قد تراجع عن تقليص مجال التحقيق الاعدادي، وعاد إلى الوضعية السابقة قبل المقتضيات الانتقالية،  كما ان المشروع حذف مسطرة البحث التكميلي(2).

    وقد استحدث مشروع قانون المسطرة الجنائية، اجراء يتمثل في حضور ممثل النيابة العامة في جلسات التحقيق، وهذا من شانه ان يؤثر تاثيرا سلبيا على القاضي المكلف بالتحقيق، ويحوله إلى قاضي من  قضاة  الحكم(3).

    وثمة صلاحيات اخرى بيد النيابة العامة، من شانها الأضرار باستقلال قاضي التحقيق، وتتمثل في الحق المخول للوكيل العام في اختيار قاضي التحقيق، إذا كان يوجد بالمحكمة عدة قضاة (الفصل 91 من ق م ج) وهذا من شانه أن يمكن  النيابة العامة من اختيار قاضي التحقيق، الذي يتبنى دوما وجهات نظرها، وكان من  الافضل ان يتولى رئيس المحكمة، أو قيدوم قضاة  التحقيق مهمة توزيع القضايا على القضاة، بدلا من النيابة العامة(1).واذا كان الوضع التشريعي الحالي، وضع يتسم بالعديد من السلبيات، والتي اشرنا إلى بعض منها، وبانه وضع ترقب وانتظار لانهاء فترة انتقالية اصبحت في حكم الفترة القارة، فان الامر يقتضي من جهة اخرى ادخال العديد من الاصلاحات على النصوص الحالية وهي دعوة لقراءة جديدة لبعض نصوص قانون المسطرة الجنائية، وتاتي هذه الدعوة في وقت ما يزال فيه مشروع اصلاح هذا القانون، بين الاخذ والرد.

    هذه القراءة الجديدة التي نقترحها، والتي استوحينا احكامها من الفقه، والتشريع، والقضاء المقارن، تؤثر في نظرنا،  تاثيرا حسنا على سير مرحلة  ما قبل المحاكمة، وتوجهها الوجهة الصائبة، وتجعل لها دورا طلائعيا في باقي المراحل الاجرائية الاخرى.
    وتتركز اقتراحاتنا في النقط التالية :

    1-  ان تجنب المخاطر التي تهدد الحرية الفردية، والتي عرضنا لها لماما في الفقرة الثالثة من هذا العرض (الصفحة8) تقتضي اقرار نظرية عامة لحماية الحرية الفردية خلال مرحلة ما قبل المحاكمة.

    2-  صياغة النصوص صياغة صريحة، واضحة ودقيقة، تؤمن بطلان الإجراءات التي لا تحترم القيود القانونية المقررة على ممارسة الشرطة القضائية لاعمالها.

    3-  اتباع الحل الذي تبناه المشرع المصري بمقتضى القانون رقم 37 لسنة1972، وهو التعديل الذي ادخل على المادة 302 من قانون الإجراءات الجنائية المصري لسنة1952، والذي يقضي بان : " كل تصريح ثبت انه صدر من احد المتهمين، أو الشهود تحت وطأة الاكراه أو التهديد يهدر ولا يعول عليه.

    4-  نقترح ايضا، تعديل مقتضيات الفصل291 من قانون المسطرة الجنائية وهو المتعلق بحجية المحاضر التي  تنجزها الشرطة القضائية في الجنح والمخالفات، وذلك لتصبح صياغة هذا النص على النحو التالي :
    " ان المحاضر، والتقارير التي يحررها ضباط الشرطة القضائية وجنود الدرك، في شان التثبت من الجنح والمخالفات، يوثق بمضمنها ما لم يثبت ما يخالف ذلك.
    يجوز اثبات ما يخالف المحضر،  باية وسيلة من وسائل الاثبات.
    تنصرف حجية المحاضر إلى التسليم بصدورها بما تضمنته عن ضابط الشرطة القضائية الذي اقامها، ولا تسري هذه الحجية على مطابقة مضمونها للحقيقة الواقعية."

    ان الفقرة الثانية المقترح اضافتها، من شانها فيها نعتقد وضع حد للجدل حول سكوت المشرع المغربي، عن نوعية الدليل الذي يجوز استعماله لاثبات عكس ما يتضمنه المحضر، وهذه الفقرة تاكيد لمبدا حرية الاثبات  دون الاخلال بالثقة التي يتعين اضفائها على تحريات الشرطة القضائية.
    ومن شان هذا الحل، ان يرفع ما قد يرين على الاذهان من التباس بشان حجية المحاضر، وإقناعيتها وكذا  التخفيف من الهالة التي تحيطها، والتي كرستها عن خطا الممارسة القضائية.

    اما الفقرة الثانية المقترحة،  فما هي إلا تكريس للعمل القضائي المغربي والمقارن، والمقصود منها تحديد دلالة  الحجية التي تتوفر لمحاضر الضابطة القضائية في شان الجنح والمخالفات.
    فهذه الحجية تنحصر في تصديق ضابط الشرطة القضائية، فيما تلقاه أو شاهده، أو عاينه، وهو تصديق ينصرف إلى الثقة في كون ما هو مسطر بالمحضر قد صدر فعلا عن محرره، اما مطابقة ذلك للحقيقة الواقعية فهو من شان قاضي الموضوع، بما له من حرية في تقدير كتابة الدليل.

    5-  يستحسن ان يضاف للفصل 83 من قانون المسطرة الجنائية المقتضيات التالية :
    ـ يشار في المحاضر إلى كل وضع تحت الحراسة طبقا ما هو مقرر في الفصلين 69 و70 أعلاه.
    ـ ويترتب على الاخلال باحكام الوضع تحت الحراسة، بطلان الإجراءات وسائر الادلة أو المحاضر المنجزة خلالها.
    ـ ويجوز من جهة اخرى للشخص الموضوع تحت الحراسة، ان يطلب اجراء فحص طبي عليه، بعد انقضاء 48 ساعة،  وعلى ضباط الشرطة القضائية، ان يسجلوا بالمحاضر المدة التي استمر  فيها  الاستنطاق، ومدة الاستراحة التي تفصل بين الاستنطاقات.

    هذه المقتضيات من شانها، فيما نعتقد، وضع حد لجدل  بشان بطلان الإجراءات والادلة والمحاضر، التي تنجز دون مراعاة ضمانات الوضع تحت الحراسة.

    اما الفقرة الاخيرة المقترحة،  هي الحل المتبع  في التشريع الفرنسي بمقتضى الفصل 64 من قانون الإجراءات الجنائية الفرنسي الصادر في 1958، ومن شان هذا الحل، ان يضفي المصداقية على حجية تصرفات الشرطة،  ويرفع الشبهة عن الاعمال  التي تتولاها(1).

    ولوضع هذه المقترحات  موضع التنفيذ، يتعين تعزيزها بالرقابة القضائية، المخولة لاعضاء النيابة العامة،  وقاضي التحقيق، على اعمال الضابطة القضائية، كما يتعين رصد الوسائل المادية والبشرية اللازمة لذلك، ونعني بها على الخصوص، تعيين الاطباء الذين تناط بهم مهمة اجراء الفحوص الطبية عند طلبها، ويستحسن ان يكون هؤلاء من بين الخبراء المحلفين المقبولين أمام المحاكم.

    لكن تعديل القوانين واصلاحها، يظل ناقص الفعالية، ان لم يكن مصحوبا بالعناية، بالعنصر البشري الذي يتولى تطبيقها، وقد فطن المشرع المغربي لهذه المسالة، فجاء في العرض الذي استهل به قانون المسطرة الجنائية  المغربي (1959) ما يلي :" لكن القوانين ليست سوى ادوات، ولن يكون لقيمتها الذاتية أي وزن، إذا ما اسيء  استعمالها، أو إذا حرفت  نصوصها وروحها عن قصد، أو عن غير قصد. 
    وفي نهاية الامر، هم القائمون على تطبيقها الذين  يعطونها كل قيمتها، ويحققون عمل التجديد القضائي الذي سيكون  قانون المسطرة الجنائية، احد جوانبه الرئيسية."
     
    الأستاذ الدكتور الحبيب بيهي
    استاذ القانون الجنائي بكلية الحقوق
    بجامعة  الحسن الثاني  بالدار البيضاء
    مجلة الاشعاع، عدد 7، ص 35.
    هل اعجبك الموضوع :

    تعليقات