مسطرة التلبس إلى أين؟ أو التلبس وضمانات المتهم في ظل القانون المغربي
نستطيع أن نبدأ هذا العرض بالتساؤل التالي، تساؤل بسيط
وأساسي في نفس الوقت: لماذا مسطرة التلبس؟
ويمكننا أن نلتمس الجواب عن هذا السؤال من زاويتين:
* زاوية سوسيو- تاريخية عامة.
* زاوية سوسيو- تاريخية خاصة ومحددة.
الإجابة على السؤال الذي طرحناه (لماذا مسطرة التلبس؟)
من زاوية سوسيوتاريخية عامة تفيدنا بأن مسطرة التلبس وليدة اليوم ولا الأمس
القريب. بل إنها إجراء عرفته الجماعات الإنسانية بشكل أو بآخر وذلك تأسيسا على عدد
من الاعتبارات أهمها البلبلة الواضحة التي يحدثها الجرم المشهود داخل المجتمع.
وكون هذا النوع من الإجرام ينظر إليه عادة على أنه تحد سافر لحرمة السلطة. كما أن
هناك اعتقادا سائدا بشكل ساذج أحيانا بأن الجرائم المتلمس بها دائما سهلة الإثبات.
وللإجابة عن نفس السؤال (لماذا مسطرة التلبس؟) من زاوية
سوسيوتاريخية خاصة ومحددة نريد أن نقف قليلا عند قانون 20/5/1863 الذي أوجد في
فرنسا مسطرة المحاكمة في حالة تلبس في الجنح.
هذا النص الذي يعتبر المصدر البعيد للمقتضيات المتعلقة
بالمحاكمة في حالة تلبس في القانون المغربي لسنة 1959.
قبل صدور قانون 20/5/1863 بفرنسا لم يكن هناك سوى
طريقتين لتحريك الدعوى العمومية في قانون التحقيقات الجنائية الجاري بها العمل
آنذاك. أولا طريقة الاستدعاء المباشر: وهي مسطرة تستعمل منطقيا في القضايا البسيطة
التي لا تحتاج إلى إخضاعها لتحريات دقيقة لإظهار الحقيقة. ونظرا لبساطتها فإنها لا
تتطلب عادة اعتقال الشخص المتابع.
ثانيا طريقة التحقيق الإعدادي: والمفروض أن يتم
اللجوء إليه في القضايا التي تتسم بشيء من التعقيد. والتي تحتاج إلى القيام ببحث
معمق حول ملابسات النازلة قصد تحديد مجرى المسؤولية الجنائية. وغالبا ما يتطلب
الأمر وضع اليد على الشخص المتابع لتسهيل التحري وذلك عن طريق اعتقاله، ويتم ذلك
عن طريق استعمال الأمر بإبداعه في السجن الذي يصدره قاضي التحقيق. هذا الأمر الذي كان مقصورا على قاضي التحقيق ولا يصدره إلا هو.
في ظل هاته الوضعية التي لا توجد بها إلا طريقان رئيسيان
لتحريك الدعوى العمومية: الاستدعاء المباشر والتحقيق الإعدادي أخذت المحاكم تعاني
أحيانا من المشكل التالي: ما العمل عندما تكون القضية المعروضة على النيابة العامة
من الصنف البسيط الذي تحسن إحالته على المحكمة عن طريق الإدعاء المباشر، وذلك
عندما يكون الشخص المتابع غير متوفر على ضمانات للحضور؟ في مثل هاته الحالة إذا استعملت مسطرة الادعاء المباشر فإن الظنين
سوف يظل طليقا. وهذا يعني بأن هناك احتمالا كبيرا بأنه لن يمثل أمام المحكمة في
الموعد المحدد له مع صعوبة وضع اليد عليه لاحقا. من ثم فإن الحل الذي درجت النيابة العامة على إعطائه لهاته المعضلة هو إحالة النازلة على
التحقيق. لا لأنها تحتاج إلى تحقيق إعدادي. بل فقط لكيلا يفلت المتابع من قبضة
العدالة لأن قاضي التحقيق يستطيع اعتقاله في الحين.
والنتيجة المتحصلة من هاته
الوضعية هي زيادة الضغط الحاصل على مكاتب قضاة التحقيق بقضايا تافهة لا تحتاج في
الواقع إلى تدخل هؤلاء القضاة.
من هنا تبرز أهمية قانون
20/5/1863 الذي أحدث مسطرة الإحالة على الجلسة فورا في حالة تلبس بالجنحة لأن هاته
المسطرة التي يفترض فيها أن تستعمل في القضايا الجنحية البسيطة قد جاءت وسطا بين
إجراء الاستدعاء المباشر وإجراء التحقيق.
لقد استعارت من الاستدعاء
المباشر تقنية الاستدعاء مع تقليص مدته (الإحالة على الجلسة فورا أو في اليوم
التالي على الأكثر). كما أخذت عن التحقيق الإعدادي تقنية الاعتقال (الأمر بالإيداع
في السجن) قصد وضع اليد على المتابع حالا. وقد قال بعضهم بحق عن هاته المسطرة
بأنها عبارة عن "استدعاء مباشر مدعم بأمر بالإيداع في السجن "Une citation directe Armée d'un Mandant de Dépôt". وقد أحاطها المشرع الفرنسي بعدة ضمانات نفضل أن نعرض لها
لاحقا من خلال مقتضيات القانون المغربي.
وجدير بالذكر- قبل أن نخلص من
هاته النقطة- أن المسطرة التي أضافها المشرع الفرنسي المتعلقة بالإحالة على الجلسة
في حالة تلبس بالجنحة قد فرضتها ظروف تاريخية معينة. وتتمثل تلك الظروف التاريخية
في: تنامي النسيج الحضري بفرنسا خلال القرن التاسع عشر، وما نجم عن ذلك من تزايد
الهجرة القروية. وبالتالي ظهور فئات اجتماعية متضعضعة ماديا ومعنويا. فئات
اجتماعية اقتلعت جذورها من وسطها الطبيعي القروي ولم تتمكن بعد من ترسيب جذور
عميقة في الوسط الحضري. وقد كانت هاته الفئة الاجتماعية الموجودة في أسفل السم
الاجتماعي ولا تزال هي التي تمثل القسط الأوفر من الأظناء المحالين على جلسات
التلبس الجنحية.
فما هي الضمانات التي منحت لها
عند مثولها أمام المحاكم؟ وكيف تطورت تلك الضمانات؟ نحصر حديثنا هنا عن القانون
المغربي فقط. ونرجو أن تتاح لنا فرصة لعقد مقارنات مع تشريعات أخرى أثناء
المناقشة. وسوف نتناول تلك الضمانات من خلال الصياغة الأولى لظهير 10/2/1959
المتعلق بالمسطرة الجنائية ثم من خلال تعديلاته. لقد أحاط ظهير 10/2/1959 الظنين
المحال على الجلسة مباشرة في حالة تلبس بعدة ضمانات بعضها يرجو إلى خصوصيات
الجريمة المتابعة وبعضها يهم مسطرة المتابعة والمحاكمة.
أما فيما يخص الضمانات المتعلقة
بالجريمة المتابعة فقد اشترط:
- أن تكون الجريمة جنحية معاقبة
بالحبس. وبذلك فإنه قد أقصى الجنايات نظرا لتعقد ملابساتها عادة وشدة عقوباتها
دائما. كما أبعد المخالفات نظار لتفاهتها والجنح الغير المعاقبة بالحبس، لأن
الاعتقال الذي تتضمنه مسطرة التلبس يغدو غير معقول في هاته الحالة.
اقرا ايضاملخص التنظيم الإداري السداسي الثاني
- كما اشترط أن تكون الجنحة
متلبسا بها. والتلبس هنا من طبيعة الحال لا يطابق المفهوم الشعبي المتداول للتلبس
بل ينبغي تلمسه من خلال مقتضيات الفصل 58 م ج. وهو معروف لديكم.
- وقد اشترط المشرع أيضا ألا
يكون قاضي التحقيق قد وضع يده على النازلة: حتى لا يقع تطاول على اختصاصه وقد كانت
الجنح قبل تعديلات ظهير (28/9/1974 مق. انت) تخضع للتحقيق بصفة اختيارية.
- وعلاوة على ذلك فقد تم
استثناء بعض الجنح من مجال تطبيق هذا القانون ويتعلق الأمر هنا بالجنح الصحافية،
والجنح السياسية المحضة، والجنح الخاضعة لمسطرة خاصة، والجنح المرتبكة من طرف
الأحداث، والجنح التي يمكن أن يتعرض مرتكبوها لعقوبة الإبعاد.
وأما فيما يخص الضمانات
المتعلقة بمسطرة المتابعة فإن المشرع:
- قد فرض على ممثل النيابة العامة استنطاق المتهم
قبل إصدار أمر بإيدعه في السجن إن اقتضى الحال. والاستنطاق سلطة تملكها النيابة
العامة للتحري. كما أنه أيضا ضمانة للظنين فقد يكشف مثلا عن كونه ليس هو الشخص
المعني بالمتابعة أصلا أو كونه حدثا...إلخ.
- كما ألزم القانون على ممثل
النيابة العامة إحالة الظنين على الجلسة في آجال قصيرة (نفس يوم إصدار الأمر
بالإيداع في السجن، أو خلال ثلاثة أيام من ذلك الوقت على أكثر تقدير ولو تطلب
الأمر عقد جلسة خصيصا من أجل ذلك). وقد قررت هاته الضمانة لتلافي إبقاء الظنين مدة
طويلة رهن الاعتقال قبل عرضه على هيأة الحكم.
وأما فيما يخص الضمانات
المتعلقة بالمحاكمة فإنها تتمثل:
- في الواجب الذي فرضه المشرع
على القاضي بإعلان المتهم بحقه في طلب أجل لإعداد دفاعه مع إلزامه بالنص على هذا
الإعلام وجواب الظنين بشأنه في حكمه تحت طائلة البطلان.
- كما تتجلى في ضرورة إعطاء
الظنين الذي يطلب مهملة لإعداد دفاعه ثلاثة أيام على الأقل للقيام بذلك.
- كما أشار المشرع إلى ضرورة
إرجاء البت في النازلة إذا لم تكن جاهزة للحكم مع إمكانية النظر تلقائيا في مسألة
الإفراج عن الظنين عند الاقتضاء.
- ومعلوم أن للظنين بنفسه أو
بواسطة مؤازرة طلب الإفراج عنه.
هاته هي باختصار شديد أهم
الضمانات التي أحاط بها المشرع مسطرة الإحالة على الجلسة في حالة التلبس بالجريمة
من خلال الصياغة الأولى لظهير 10/2/1959. فما هي التطورات التي لحقتها فيما بعد؟
علينا أن نلتمس تلك التطورات
على المستوى الجنحي ثم على المستوى الجنائي.
على المستوى الجنحي، هدفت
التعديلات اللاحقة بظهير 10/2/1959 بالأساس إلى توسيع ميدان تطبيق مسطرة التلبس
بشكل ملحوظ.
- وقد طلع علينا ظهير 10/9/1962
هي هذا الصدد بتعديل بسيط للفصل 76 م ج ولكنه عميق الأثر. وبموجب هذا التعديل لم
يعد التلبس بالجنحة ضروريا لعرض الظنين مباشرة على الجلسة في حالة اعتقال بل يكفي
ألا يكون الشخص المتابع متوفرا على ضمانات الحضور.
وقد أعطيت بموجب هذا التعديل
سلطة للنيابة العامة الاعتقال الأظناء المعروضين عليها نظرا للاتساع الملحوظ لمدول
عدم توفر ضمانات الحضور، وتلك خطوة لم يقدم عليها المشرع الفرنسي أبدا ولحد أن رغم
كون فكرة عدم توفر ضمانات الحضور كانت حاضرة وقائمة وراء النص الفرنسي منذ مناقشة
مشروعة سنة 1863.
أما ظهير 13/11/1963 فقد عمل
على تقليص قائمة الجنح التي تتم متابعتها عن طريق مسطرة عرض المتهم مباشرة على
الجلسة في حالة تلبس أو في حالة اعتقال.
وفي هذا الاتجاه سحب الجرائم
السياسية من لائحة الجرائم التي لا يمكن أن تخضع لمسطرة التلبس كما ترك الجرائم
الصحافية مبعدة "إلا في حالة المس بجلالة الملك وأصحاب السمو الملكي الأمراء
والأميرات".
أما التطور في الميدان الجنائي
فقد تم كما هو معلوم بموجب ظهير 28/9/1974 المتعلق بالمقتضيات الانتقالية.
- وقد انطلق أولا من تقليص مجال
التحقيق الإعدادي الذي أصبح إجباريا في بعض الجنايات فقط.
- كما أوجد مسطرة
شبيهة إلى حد بعيد بمسطرة الجنحي التلبسي تطبق على الجنايات.
وهكذا خول 26 مق. انت. الوكيل
العام للملك عرض المتهم مباشرة على الجلسة الجنائية بعد استنطاقه وبشروط معينة
(وهي أن تكون الجناية غير معاقبة بالإعدام أو السجن المؤبد أو مرتكبة من طرف حدث،
وأن تكون متلبسا بها، وأن تكون جاهزة للحكم).
وهاته الصلاحية غير مستساغة من
جانبين على الأقل: الأول هو خطورة عقوبة الجنايات وتعقد ملابساتها في أغلب الأحيان
أن تحاكم على هذا الشكل المتسرع والمخل بحقوق الدفاع.
والثاني: هو إعطاء ممثل النيابة
وهو فاض ملزم بالخضوع لأوامر رؤسائه (في ما يتخذه من مقررات) سلطة إيداع المتهم في
السجن في ميدان الجنايات.
وعلاوة على ذلك فقد أغفل المشرع
سن حكم صريح لبعض النقط الحساسة. وهكذا مثلا فإنه
قد بين الأجل التي ينبغي أن يفصل بين تاريخ استدعاء المتهم للجلسة وتاريخ
انعقاد الجلسة ( وهو خمسة أيام على الأقل). لكنه لم يبين المدة التي يمكن الاحتفاظ
خلالها بالمتهم المعتقل بعد إصدار الأمر بالإيداع في السجن ويخشى من طبيعة الحال
أن يقع التعسف أحيانا في هذا الصدد.
وهكذا يلاحظ بأن التطور الذي
عرفته مسطرة التلبس لم يكن دائما في اتجاه صيانة حقوق الأفراد.
على أن من حقنا دائما أن نأمل
الخير في المستقبل وأن ندافع عن وجهة نظرنا فيما نعتقده كفيلا بتحقيق النفع
والمصلحة العامة.
في هذا الإطار نتجه بأنظارنا
إلى المستقبل ونذكر بأن هناك مشروعا لقانون المسطرة الجنائية لم يعرض لحد الآن على
البرلمان.
وقد لفت نظرنا في هذا المشروع
مسألتان إيجابيتان. الأولى هي تراجعه عن تقليص مجال التحقيق، والعودة إلى ما كان
معمولا به في هذا الصدد قبل تعديلات 1974. والثانية هي حذفه لمسطرة الإحالة على
الجلسة مباشرة في غير حالات التلبس.
إلا أن هناك نقطة سلبية سلبت
بيد من حديد كل ما أعطته بيد رقيقة ناعمة. ألا وهي تبني تعريف واسع وجد فضفاض
لمفهوم التلبس بحيث تصبح مع هذا المفهوم جميع الجرائم تقريبا متلبسا بها. بل إنها
أضافت عدم توفر ضمانات الحضور إلى حالات التلبس الحكمي بموجب النص.
وإذا كانت هاته هي الصورة التي
يبدو عليها المشروع المذكور بخصوص الموضوع الذي يشغلنا في هاته الأمسية فإن من
واجب كل مهتم في القانون ببلدنا أن يتصدى له ويبرز نقط ضعفه ويقترح إصلاح عيوبه
بهدف الوصول إلى صياغة تصون فعلا الفرد بما لا يتعارض مع مصلحة المجتمع.
الدكتور محمد عياط
أستاذ ونائب عميد كلية الحقوق بفاس
قانون المسطرة الجنائية المغربي word ملخص قانون المسطرة الجنائية المغربي
شرح قانون المسطرة الجنائية المغربي pdf
حالات التلبس في القانون المغربي
تعريف قانون المسطرة الجنائية
قانون المسطرة الجنائية 2018
قانون المسطرة الجنائية 2018 pdf
قانون المسطرة الجنائية المغربي 2018
تعليقات
إرسال تعليق